فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

ثم قال تعالى: {هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا} الآية. المعنى: قل لهؤلاء الكفرة على جهة التوبيخ: هل نخبركم بالذين خسروا عملهم وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم مع ذلك يظنون أنهم يحسنون فيما يصنعونه فإذا طلبوا ذلك، فقل لهم: {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه}، وقرأ ابن وثاب {قل سننبئكم}، وهذه صفة المخاطبين من كفار العرب المكذبين، بالبعث، و{حبطت} معناه: بطلت، و{أعمالهم}: يريد ما كان لهم من عمل خير، وقوله: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا} يحتمل أن يريد أنه لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار لا محالة، ويحتمل أن يريد المجاز والاستعارة، كأنه قال فلا قدر لهم عندنا يومئذ، فهذا معنى الآية عندي، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالأكول الشروب الطويل فلا يزن بعضوة» ثم يقرأ: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا} وقالت فرقة: إن الاستفهام تم في قوله: {أعمالًا} ثم قال: هم {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا} فقال سعد بن أبي وقاص هم عباد اليهود والنصارى، وأهل الصوامع والديارات، وقال علي بن أبي طالب هم الخوارج، وهذا إن صح عنه، فهو على جهة مثال فيمن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن وروي أن ابن الكواء سأله عن {الأخسرين أعمالًا} فقال له أنت وأصحابك، ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه} وليس من هذه الطوائف من يكفر بلقاء الله، وإنما هذه صفة مشركي عبدة الأوثان، فاتجه بهذا ما قلناه أولًا وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقوامًا أخذوا بحظهم من صدر الآية، وقوله: {أعمالًا} نصب على التمييز، وقرأ الجمهور: {فحبِطت} بكسر الباء، وقرأ ابن عباس وأبو السمال {فحبَطت} بفتح الباء، وقرأ كعب بن عجرة والحسن وأبو عمرو ونافع والناس {فلا نقيم لهم} بنون العظمة، وقرأ مجاهد: {فلا يقيم}، بياء الغائب، يريد فلا يقيم الله عز وجل، وقرأ عبيد بن عمير: {فلا يقوم} ويلزمه أن يقرأ: {وزن}، وكذلك قول مجاهد: {يقول لهم يوم القيامة}، وقوله: {ذلك} إشارة إلى ترك إقامة الوزن و{جزاؤهم} خبر الابتداء في قوله: {ذلك}، وقوله: {جهنم} بدل منه، و{ما} في قوله: {بما كفروا} مصدرية والهزء الاستخفاف والسخرية. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قل هل نُنَبِّئكم بالأخسرين أعمالًا} فيهم قولان:
أحدهما: أنهم القسِّيسون والرهبان، قاله علي عليه السلام، والضحاك.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله سعد بن أبي وقاص.
قوله تعالى: {أعمالًا} منصوب على التمييز، لأنه لما قال: {بالأخسرين} كان ذلك مبهمًا لا يدل على ما خسروه، فبيَّن ذلك في أي نوع وقع.
قوله تعالى: {الذين ضل سعيهم} أي: بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم، فرؤساؤهم يعلمون الصحيح، ويؤثرون الباطل لبقاء رئاستهم، وأتباعُهم مقلِّدون بغير دليل.
{أولئك الذين كفروا بآيات ربِّهم} جحدوا دلائل توحيده، وكفروا بالبعث والجزاء، وذلك أنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، صاروا كافرين بهذه الأشياء {فحبطت أعمالهم} أي: بطل اجتهادهم، لأنه خلا عن الإِيمان {فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزنًا} وقرأ ابن مسعود، والجحدري: {فلا يُقيم} بالياء.
وفي معناه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه إِنما يثقل الميزان بالطاعة، وإِنما توزن الحسنات والسيئات، والكافر لا طاعة له.
والثاني: أن المعنى: لا نُقيم لهم قَدْرًا.
قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية: يقال: ما لفلان عندنا وزن، أي: قَدْر، لخسَّته.
فالمعنى: أنهم لا يُعتدُّ بهم، ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة.
وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة، اقرؤوا إِن شئتم: {فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزنا}».
والثالث: أنه قال: {فلا نقيم لهم} لأن الوزن عليهم لا لهم، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: {ذلك جزاؤهم} أي: الأمر ذلك الذي ذكرت من بطلان عملهم وخِسَّة قدرهم، ثم ابتدأ فقال: {جزاؤهم جهنم}، وقيل: المعنى: ذلك التصغير لهم، وجزاؤهم جهنم، فأضمرت واو الحال. قوله تعالى: {بما كفروا} أي: بكفرهم واتخاذهم {آياتي} التي أنزلتها {ورُسُلي هزوًا} أي: مهزوءًا به. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالًا}.
إلى قوله: {وَزْنًا} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالًا} الآية فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة، والمراد هنا الكفر.
روى البخاري عن مصعب قال: سألت أبي {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا} أهم الحَرُوريّة؟ قال: لا؛ هم اليهود والنصارى.
أما اليهود فكذبّوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب؛ والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه؛ وكان سعد يسميهم الفاسقين.
والآية معناها التوبيخ؛ أي قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري: يخيب سعيهم وآمالهم غدًا؛ فهم الأخسرون أعمالًا، وهم {الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} في عبادة من سواي. قال ابن عباس: يريد كفار أهل مكة. وقال عليّ: هم الخوارج أهل حروراء.
وقال مَرَّة: هم الرهبان أصحاب الصوامع. وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالًا فقال له: أنت وأصحابك.
قال ابن عطية: ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك: {أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} وليس من هذه الطوائف من يكفر بالله ولقائه والبعث والنشور، وإنما هذه صفة مشركي مكة عبدة الأوثان؛ وعليّ وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقوامًا أخذوا بحظهم من هذه الآية.
و{أعمالًا} نصب على التمييز.
و{حبِطت} قراءة الجمهور بكسر الباء.
وقرأ ابن عباس: {حَبَطَت} بفتحها.
الثانية: قوله تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} قراءة الجمهور: {نقيم} بنون العظمة.
وقرأ مجاهد بياء الغائب؛ يريد فلا يقيم الله عز وجل.
وقرأ عبيد بن عمير {فلا يقوم} ويلزمه أن يقرأ: {وزن} وكذلك قرأ مجاهد {فَلاَ يَقُومُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنٌ}.
قال عبيد بن عمير: يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة.
قلت: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي، وقد ثبت معناه مرفوعًا في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه ليأتي الرجلُ العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا}» والمعنى أنهم لا ثواب لهم، وأعمالهم مقابلة بالعذاب، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار.
وقال أبو سعيد الخدري: يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئًا. وقيل: يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة؛ كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذٍ؛ والله أعلم.
وفي هذا الحديث من الفقه ذمُّ السِّمن لمن تكلّفه، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به التَّرفه والسِّمن.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السَّمين» ومن حديث عِمران بن حُصَين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خيركم قرني ثم الذين يلونهم قال عِمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن من بعدكم قومًا يَشهدون ولا يُستشهدون ويخونون ولا يُؤتمنون ويَنذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السِّمن» وهذا ذمٌّ.
وسبب ذلك أن السِّمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشَّرَه، والدعة والراحة والأمن والاسترسال مع النفس على شهواتها، فهو عبد نفسه لا عبد ربه، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام، وكل لحم تولد عن سحت فالنار أولى به؛ وقد ذمّ الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال: {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام والنار مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12] فإذا كان المؤمن يتشبه بهم، ويتنعم بتنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فأين حقيقة الإيمان، والقيام بوظائف الإسلام؟ ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه، وزاد بالليل كسله ونومه، فكان نهارَه هائمًا، وليله نائمًا.
وقد مضى في الأعراف هذا المعنى؛ وتقدّم فيها ذكر الميزان، وأن له كفتين توزن فيهما صحائف الأعمال فلا معنى للإعادة.
وقال عليه الصلاة والسلام حين ضحكوا من حَمْش ساق ابن مسعود وهو يصعد النخلة: «تضحكون من ساق توزن بعمل أهل الأرض» فدل هذا على أن الأشخاص توزن؛ ذكره الغزنوي.
قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ} {ذلك} إشارة إلى ترك الوزن، وهو في موضع رفع بالابتداء {جزاؤهم} خبره و{جَهَنَّمُ} بدل من المبتدأ الذي هو {ذلك} وما في قوله: {بِمَا كَفَرُواْ} مصدرية، والهزء الاستخفاف والسخرية؛ وقد تقدّم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)} أي {قل} يا محمد للكافرين هل نخبركم الآية فإذا طلبوا ذلك فقل لهم {أولئك الذين كفروا} والأخسرون أعمالًا عن عليّ هم الرهبان كقوله: {عاملة ناصبة} وعن مجاهد: هم أهل الكتاب.
وقيل: هم الصابئون. وسأل ابن الكواء عليًا عنهم فقال: منهم أهل حروراء. وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل على الحصر إذ الأخسرون أعمالًا هم كل من دان بدين غير الإسلام، أو راءى بعمله، أو أقام على بدعة تؤول به إلى الكفر والأخسر من أتعب نفسه فأدى تعبه به إلى النار.
وانتصب {أعمالًا} على التمييز وجمع لأن أعمالهم في الضلال مختلفة وليسوا مشتركين في عمل واحد و{الذين} يصح رفعه على أنه خبر مبتدإِ محذوف، أي هم {الذين} وكأنه جواب عن سؤال، ويجوز نصبه على الذمّ وخبره على الوصف أو البدل {ضل سعيهم} أي هلك وبطل وذهب و{يحسبون} و{يحسنون} من تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط فرقًا بين الكلمتين.
ومنه قول أبي عبادة البحتري:
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ** ليعجز والمعتز بالله طالبه

ومن غريب هذا النوع من التجنيس.
قال الشاعر:
سقينني ربي وغنينني ** بحت بحبي حين بنّ الخرد

صحف بقوله:
سقيتني ربي وغنيتني ** بحب يحيى حين بن الجرد

وقرأ ابن عباس وأبو السمال {فحبطت} بفتح الباء والجمهور بكسرها. وقرأ الجمهور: {فلا نقيم} بالنون {وزنًا} بالنصب ومجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله: {بآيات ربهم} وعن عبيد أيضًا يقوم بفتح الياء كأنه جعل قام متعديًا.
وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم: فلا يقوم مضارع قام وزن مرفوع به. واحتمل قوله: {فلا نقيم} إلاّ به أنهم لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار. واحتمل أن يريد المجاز كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذ. وفي الحديث: «يؤتي بالأكول الشروب الطويل فلا يزن جناح بعوضة» ثم قرأ: {فلا نقيم} الآية وفي الحديث أيضًا: «يأتي ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئًا». {ذلك جزاؤهم} مبتدأ وخبر و{جهنم} بدل و{ذلك} إشارة إلى ترك إقامة الوزن، ويجوز أن يشار بذلك وإن كان مفردًا إلى الجمع فيكون بمعنى أولئك ويكون {جزاؤهم جهنم} مبتدأ وخبرًا.
وقال أبو البقاء: {ذلك} أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون {ذلك} مبتدأ و{جزاؤهم} مبتدأ ثان و{جهنم} خبره. والجملة خبر الأول والعائد محذوف أي جزاؤه انتهى.
ويحتاج هذا التوجيه إلى نظر قال: ويجوز أن يكون {ذلك} مبتدأ و{جزاؤهم} بدل أو عطف بيان و{جهنم} الخبر. ويجوز أن يكون {جهنم} بدلًا من جزاء أو خبر لابتداء محذوف، أي هو جهنم و{بما كفروا} خبر ذلك، ولا يجوز أن تتعلق الباء بجزاؤهم للفصل بينهما و{اتخذوا} يجوز أن يكون معطوفًا على {كفروا} وأن يكون مستأنفًا انتهى.
والآيات هي المعجزات الظاهرة على أيدي الأنبياء والصحف الإلهية المنزلة عليهم. اهـ.